الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فتح الباري شرح صحيح البخاري **
الشرح: قوله: (باب تأليف القرآن) أي جمع آيات السورة الواحدة، أو جمع السور مرتبة في المصحف. الحديث: حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُوسَى أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ يُوسُفَ أَنَّ ابْنَ جُرَيْجٍ أَخْبَرَهُمْ قَالَ وَأَخْبَرَنِي يُوسُفُ بْنُ مَاهَكٍ قَالَ إِنِّي عِنْدَ عَائِشَةَ أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا إِذْ جَاءَهَا عِرَاقِيٌّ فَقَالَ أَيُّ الْكَفَنِ خَيْرٌ قَالَتْ وَيْحَكَ وَمَا يَضُرُّكَ قَالَ يَا أُمَّ الْمُؤْمِنِينَ أَرِينِي مُصْحَفَكِ قَالَتْ لِمَ قَالَ لَعَلِّي أُوَلِّفُ الْقُرْآنَ عَلَيْهِ فَإِنَّهُ يُقْرَأُ غَيْرَ مُؤَلَّفٍ قَالَتْ وَمَا يَضُرُّكَ أَيَّهُ قَرَأْتَ قَبْلُ إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنْ الْمُفَصَّلِ فِيهَا ذِكْرُ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ حَتَّى إِذَا ثَابَ النَّاسُ إِلَى الْإِسْلَامِ نَزَلَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ وَلَوْ نَزَلَ أَوَّلَ شَيْءٍ لَا تَشْرَبُوا الْخَمْرَ لَقَالُوا لَا نَدَعُ الْخَمْرَ أَبَدًا وَلَوْ نَزَلَ لَا تَزْنُوا لَقَالُوا لَا نَدَعُ الزِّنَا أَبَدًا لَقَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِنِّي لَجَارِيَةٌ أَلْعَبُ بَلْ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ وَمَا نَزَلَتْ سُورَةُ الْبَقَرَةِ وَالنِّسَاءِ إِلَّا وَأَنَا عِنْدَهُ قَالَ فَأَخْرَجَتْ لَهُ الْمُصْحَفَ فَأَمْلَتْ عَلَيْهِ آيَ السُّوَرِ الشرح: قوله: (أن ابن جريج أخبرهم قال وأخبرني يوسف) كذا عندهم، وما عرفت ماذا عطف عليه، ثم رأيت الواو ساقطة في رواية النسفي، وكذا ما وقفت عليه من طرق هذا الحديث. قوله: (إذ جاءها عراقي) أي رجل من أهل العراق، ولم أقف على اسمه. قوله: (أي الكفن خير؟ قالت ويحك وما يضرك) ؟ لعل هذا العراقي كان سمع حديث سمرة المرفوع " البسوا من ثيابكم البياض وكفنوا فيها موتاكم فإنها أطهر وأطيب " وهو عند الترمذي مصححا، وأخرجه أيضا عن ابن عباس: فلعل العراقي سمعه فأراد أن يستثبت عائشة في ذلك، وكان أهل العراق اشتهروا بالتعنت في السؤال، فلهذا قال له عائشة: وما يضرك؟ تعني أي كفن كفنت فيه أجزأ. وقول ابن عمر الذي سأله عن دم البعوض مشهور حيث قال: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض وقد قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله: (أؤلف عليه القرآن، فإنه يقرأ غير مؤلف) قال ابن كثير: كأن قصة هذا العراقي كانت قبل أن يرسل عثمان المصحف إلى الآفاق، كذا قال وفيه نظر، فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان أرسل عثمان المصاحف إلى الآفاق، فقد ذكر المزي أن روايته عن أبي بن كعب مرسلة وأبي عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح، وقد صرح يوسف في هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي، والذي يظهر لي أن هذا العراقي كان ممن يأخذ بقراءة ابن مسعود، وكان ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه كما سيأتي بيانه بعد الباب الذي يلي هذا، فكان تأليف مصحفه مغايرا لتأليف مصحف عثمان. ولا شك أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره، فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف، وهذا كله على أن السؤال إنما وقع عن ترتيب السور. ويدل على ذلك قولها له " وما يضرك أيه قرأت قبل " ويحتمل أن يكون أراد تفصيل آيات كل سورة لقوله في آخر الحديث " فأملت عليه آي السور " أي آيات كل سورة كأن تقول له سورة كذا مثلا كذا كذا آية، الأولى كذا الثانية إلخ، وهذا يرجع إلى اختلاف عدد الآيات، وفيه اختلاف بين المدني والشامي والبصري، وقد اعتنى أئمة القراء بجمع ذلك وبيان الخلاف فيه، والأول أظهر - ويحتمل أن يكون السؤال وقع عن الأمرين والله أعلم. قال ابن بطال: لا نعلم أحدا قال بوجوب ترتيب السور في القراءة لا داخل الصلاة ولا خارجها، بل يجوز أن يقرأ الكهف قبل البقرة والحج قبل الكهف مثلا، وأما ما جاء عن السلف من النهي عن قراءة القرآن منكوسا فالمراد به أن يقرأ من آخر السورة إلى أولها، وكان جماعة يصنعون ذلك في القصيدة من الشعر مبالغة في حفظها وتذليلا للسانه في سردها، فمنع السلف ذلك في القرآن فهو حرام فيه. وقال القاضي عياض في شرح حديث حذيفة أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأ في صلاته في الليل بسورة النساء قبل آل عمران: هو كذلك في مصحف أبي بن كعب، وفيه حجة لمن يقول أن ترتيب السور اجتهاد وليس بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم وهو قول جمهور العلماء واختاره القاضي الباقلاني قال: وترتيب السور ليس بواجب في التلاوة ولا في الصلاة ولا في الدرس ولا في التعليم فلذلك اختلفت المصاحف، فلما كتب مصحف عثمان رتبوه على ما هو عليه الآن، فلذلك اختلف ترتيب مصاحف الصحابة. ثم ذكر نحو كلام ابن بطال ثم قال: ولا خلاف أن ترتيب آيات كل سورة على ما هي عليه الآن في المصحف توقيف من الله تعالى وعلى ذلك نقلته الأمة عن نبيها صلى الله عليه وسلم. قوله: (إنما نزل أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار) هذا ظاهره مغاير لما تقدم أن أول شيء نزل قوله: (حتى إذا ثاب) بالمثلثة ثم الموحدة أي رجع. قوله: (نزل الحلال والحرام) أشارت إلى الحكمة الإلهية في ترتيب التنزيل، وأن أول ما نزل من القرآن الدعاء إلى التوحيد، والتبشير للمؤمن والمطيع بالجنة وللكافر والعاصي بالنار، فلما اطمأنت النفوس على ذلك أنزلت الأحكام، ولهذا قالت " ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لا ندعها " وذلك لما طبعت عليه النفوس من النفرة عن ترك المألوف، وسيأتي بيان المراد بالمفصل في الحديث الرابع. قوله: (لقد نزل بمكة إلخ) أشارت بذلك إلى تقوية ما ظهر لها من الحكمة المذكورة، وقد تقدم نزول سورة القمر - وليس فيها شيء من الأحكام - على نزول سورة البقرة والنساء مع كثرة ما اشتملتا عليه من الأحكام، وأشارت بقولها " وأنا عنده " أي بالمدينة، لأن دخولها عليه إنما كان بعد الهجرة اتفاقا، وقد تقدم ذلك في مناقبها. وفي الحديث رد على النحاس في زعمه أن سورة النساء مكية مستندا إلى قوله تعالى وقد اعتنى بعض الأئمة ببيان ما نزل من الآيات بالمدينة في السور المكية. وقد أخرج ابن الضريس في " فضائل القرآن " من طريق عثمان بن عطاء الخراساني عن أبيه عن ابن عباس أن الذي نزل بالمدينة البقرة ثم الأنفال ثم الأحزاب ثم المائدة ثم الممتحنة والنساء ثم إذا زلزلت ثم الحديد ثم القتال ثم الرعد ثم الرحمن ثم الإنسان ثم الطلاق ثم إذا جاء نصر الله ثم النور ثم المنافقون ثم المجادلة ثم الحجرات ثم التحريم ثم الجاثية ثم التغابن ثم الصف ثم الفتح ثم براءة، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث أنس أن سورة الكوثر مدنية فهو المعتمد، واختلف في الفاتحة والرحمن والمطففين وإذا زلزلت والعاديات والقدر وأرأيت والإخلاص والمعوذتين، وكذا اختلف مما تقدم في الصف والجمعة والتغابن، وهذا بيان ما نزل بعد الهجرة من الآيات مما في المكي، فمن ذلك الأعراف: نزل بالمدينة منها (واسألهم عن القربة التي كانت حاضرة البحر - إلى - وإذ أخذ ربك) . يونس: نزل منها بالمدينة هود: ثلاث آيات (فلعلك تارك - أفمن كان على بينة من ربه - وأقم الصلاة طرفي النهار) . النخل الإسراء (وإن كادوا ليستفزونك - وقل رب أدخلني - وإذ قلنا لك - إن ربك أحاط بالناس - ويسألونك عن الروح - قل آمنوا به أو لا تؤمنوا) . الكهف: مكية إلا أولها إلى (جرزا) وآخرها من (إن الذين آمنوا) . مريم: آية السجدة. الحج: من أولها إلى (شديد) و الفرقان: (والذين يدعون مع الله إلها آخر - إلى - رحيما) ، الشعراء: آخرها من (والشعراء يتبعهم) . القصص: (الذين آتيناهم الكتاب - إلى - الجاهلين) و العنكبوت: من أولها إلى (ويعلم المنافقين) . لقمان: (ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام) . ألم تنزيل: سبأ: الزمر: (قل يا عبادي - إلى - يشعرون) . المؤمن: الشورى: الجاثية: الأحقاف: ق: (ولقد خلقنا السماوات - إلى - لغوب) . النجم: (الذين يجتنبون - إلى - اتقى) . الرحمن: الواقعة: (وتجعلون رزقكم) . ن: من (إنا بلوناهم - إلى - يعلمون) ومن (فاصبر لحكم ربك - إلى - الصالحين) . المرسلات: وقد بين ذلك حديث ابن عباس عن عثمان قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه الآيات فيقول: ضعوها في السورة التي يذكر فيها كذا". وأما عكس ذلك وهو نزول شيء من سورة بمكة تأخر نزول تلك السورة إلى المدينة فلم أره إلا نادرا، فقد اتفقوا على أن الأنفال مدنية، لكن قيل إن قوله تعالى نعم نزل من السور المدنية التي تقدم ذكرها بمكة ثم نزلت سورة الأنفال بعد الهجرة في العمرة والفتح والحج ومواضع متعددة في الغزوات كتبوك وغيرها أشياء كثيرة كلها تسمى المدني اصطلاحا والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا آدَمُ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ أَبِي إِسْحَاقَ قَالَ سَمِعْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ يَزِيدَ بْنِ قَيْسٍ سَمِعْتُ ابْنَ مَسْعُودٍ يَقُولُ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ وَالْكَهْفِ وَمَرْيَمَ وَطه وَالْأَنْبِيَاءِ إِنَّهُنَّ مِنْ الْعِتَاقِ الْأُوَلِ وَهُنَّ مِنْ تِلَادِي الشرح: حديث ابن مسعود، تقدم شرحه في تفسير سبحان وفي الأنبياء، والغرض منه هنا أن هذه السور نزلن بمكة وأنها مرتبة في مصحف ابن مسعود كما هي في مصحف عثمان، ومع تقديمهن في النزول فهن مؤخرات في ترتيب المصاحف. والمراد بالعتاق وهو بكسر المهملة أنهن من قديم ما نزل. الحديث: حَدَّثَنَا أَبُو الْوَلِيدِ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ سَمِعَ الْبَرَاءَ بْنَ عَازِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ تَعَلَّمْتُ سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى قَبْلَ أَنْ يَقْدَمَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الشرح: " تعلمت سورة الحديث: حَدَّثَنَا عَبْدَانُ عَنْ أَبِي حَمْزَةَ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ شَقِيقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ لَقَدْ تَعَلَّمْتُ النَّظَائِرَ الَّتِي كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقْرَؤُهُنَّ اثْنَيْنِ اثْنَيْنِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ فَقَامَ عَبْدُ اللَّهِ وَدَخَلَ مَعَهُ عَلْقَمَةُ وَخَرَجَ عَلْقَمَةُ فَسَأَلْنَاهُ فَقَالَ عِشْرُونَ سُورَةً مِنْ أَوَّلِ الْمُفَصَّلِ عَلَى تَأْلِيفِ ابْنِ مَسْعُودٍ آخِرُهُنَّ الْحَوَامِيمُ حم الدُّخَانِ وَعَمَّ يَتَسَاءَلُونَ الشرح: قوله: (عن شقيق) هو ابن سلمة وهو أبو وائل مشهور بكنيته أكثر من اسمه: وفي رواية أبي داود الطيالسي عن شعبة عن الأعمش " سمعت أبا وائل " أخرجه الترمذي. قوله: (قال عبد الله) سيأتي في " باب الترتيل " بلفظ " غدونا على عبد الله " وهو ابن مسعود. قوله: (لقد تعلمت النظائر) تقدم شرحه مستوفى في " باب الجمع بين سورتين في الصلاة " من أبواب صفة الصلاة، وفيه أسماء السور المذكورة، وأن فيه دلالة على أن تأليف مصحف ابن مسعود على غير تأليف العثماني، وكان أوله الفاتحة ثم البقرة ثم النساء ثم آل عمران ولم يكن على ترتيب النزول، ويقال إن مصحف على كان على ترتيب النزول أوله اقرأ ثم المدثر ثم ن والقلم ثم المزمل ثم تبت ثم التكوير ثم سبح وهكذا إلى آخر المكي ثم المدني والله أعلم. وأما ترتيب المصحف على ما هو عليه الآن فقال القاضي أبو بكر الباقلاني: يحتمل أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم هو الذي أمر بترتيبه هكذا، ويحتمل أن يكون من اجتهاد الصحابة، ثم رجح الأول بما سيأتي في الباب الذي بعد هذا أنه كان النبي صلى الله عليه وسلم يعارض به جبريل في كل سنة. فالذي يظهر أنه عارضه به هكذا على هذا الترتيب، وبه جزم ابن الأنباري، وفيه نظر، بل الذي يظهر أنه كان يعارضه به على ترتيب النزول. نعم ترتيب بعض السور على بعض أو معظمها لا يمتنع أن يكون توقيفا وإن كان بعضه من اجتهاد بعض الصحابة، وقد أخرج أحمد وأصحاب السنن وصححه ابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس قال " قلت لعثمان: ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني وإلى براءة وهي من المبين فقرنتم بهما ولم تكتبوا بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتموهما في السبع الطوال؟ فقال عثمان: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما ينزل عليه السورة ذات العدد، فإذا نزل عليه الشيء - يعني منها - دعا بعض من كان يكتب فيقول: ضعوا هؤلاء الآيات في السورة التي يذكر فيها كذا، وكانت الأنفال من أوائل ما نزل بالمدينة وبراءة من آخر القرآن وكان قصتها شبيهة بها فظننت أنها منها. فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبين لنا أنها منها ا ه. فهذا يدل على أن ترتيب الآيات في كل سورة كان توقيفا، ولما لم يفصح النبي صلى الله عليه وسلم بأمر براءة أضافها عثمان إلى الأنفال اجتهادا منه رضي الله تعالى عنه. ونقل صاحب " الإقناع " أن البسملة لبراءة ثابتة في مصحف ابن مسعود، قال: ولا يؤخذ بهذا. وكان من علامة ابتداء السورة نزول " بسم الله الرحمن الرحيم " أول ما ينزل شيء منها كما أخرجه أبو داود وصححه ابن حبان والحاكم من طريق عمرو بن دينار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال " كان النبي صلى الله عليه وسلم لا يعلم ختم السورة حتى ينزل بسم الله الرحمن الرحيم " وفي رواية " فإذا نزلت بسم الرحمن الرحيم علموا أن السورة قد انقضت " ومما يدل على أن ترتيب المصحف كان توقيفا ما أخرجه أحمد وأبو داود وغيرهما عن أوس بن أبي أوس حذيفة الثقفي قال " كنت في الوفد الذين أسلموا من ثقيف " فذكر الحديث وفيه " فقال لنا رسول صلى الله عليه وسلم: طرأ علي حزبي من القرآن فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه. قال فسألنا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا: كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور وخمس سور وسبع سور وتسع سور وإحدى عشرة وثلاث عشرة، وحزب المفصل من ق حتى تختم. قلت: فهذا يدل على أن ترتيب السور على ما هو في المصحف الآن كان في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ويحتمل أن الذي كان مرتبا حينئذ حزب المفصل خاصة، بخلاف ما عداه فيحتمل أن يكون كان فيه تقديم وتأخير كما ثبت من حديث حذيفة " أنه صلى الله عليه وسلم قرأ النساء بعد البقرة قبل آل عمران " ويستفاد من هذا الحديث - حديث أوس - أن الراجح في المفصل أنه من أول سورة ق إلى آخر القرآن، لكنه مبني على أن الفاتحة لم تعد في الثلث الأول فإنه يلزم من عدها أن يكون أول المفصل من الحجرات وبه جزم جماعة من الأئمة، وقد نقلنا الاختلاف في تحديده في " باب الجهر بالقراءة في المغرب " من أبواب صفة الصلاة، والله أعلم. *3* وَقَالَ مَسْرُوقٌ عَنْ عَائِشَةَ عَنْ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَام أَسَرَّ إِلَيَّ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يُعَارِضُنِي بِالْقُرْآنِ كُلَّ سَنَةٍ وَإِنَّهُ عَارَضَنِي الْعَامَ مَرَّتَيْنِ وَلَا أُرَاهُ إِلَّا حَضَرَ أَجَلِي الشرح: قوله: (باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم) بكسر الراء من العرض وهو بفتح العين وسكون الراء أي يقرأ، والمراد يستعرضه ما أقرأه إياه. قوله: (وقال مسروق عن عائشة عن فاطمة قالت: أسر إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل كان يعارضني بالقرآن) هذا طرف من حديث وصله بتمامه في علامات النبوة، وتقدم شرحه في " باب الوفاة النبوية " من آخر المغازي، وتقدم بيان فائدة المعارضة في الباب الذي قبله. والمعارضة مفاعلة من الجانبين كأن كلا منهما كان تارة يقرأ والآخر يستمع. قوله: (وأنه عارضني) في رواية السرخسي " وأني عارضني". الحديث: حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ قَزَعَةَ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بِالْخَيْرِ وَأَجْوَدُ مَا يَكُونُ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ لِأَنَّ جِبْرِيلَ كَانَ يَلْقَاهُ فِي كُلِّ لَيْلَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ حَتَّى يَنْسَلِخَ يَعْرِضُ عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ فَإِذَا لَقِيَهُ جِبْرِيلُ كَانَ أَجْوَدَ بِالْخَيْرِ مِنْ الرِّيحِ الْمُرْسَلَةِ الشرح: قوله: (إبراهيم بن سعد عن الزهري) تقدم في الصيام من وجه آخر عن إبراهيم بن سعد قال أنبأنا الزهري، وإبراهيم بن سعد سمع من الزهري ومن صالح بن كيسان عن الزهري، وروايته على الصفتين تكررت في هذا الكتاب كثيرا وقد تقدمت فوائد حديث ابن عباس هذا في بدء الوحي فنذكر هنا نكتا مما لم يتقدم. فوله (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس) فيه احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله " وأجود ما يكون في رمضان " أن الأجودية خاصة منه برمضان فيه فأثبت له الأجودية المطلقة أولا ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان. قوله: (وأجود ما يكون في رمضان) تقدم في بدء الوحي من وجه آخر عن الزهري بلفظ " وكان أجود ما يكون في رمضان " وتقدم أن المشهور في ضبط أجود أنه بالرفع وأن النصب موجه، وهذه. الرواية مما تؤيد الرفع. قوله: (لأن جبريل كان يلقاه) فيه بيان سبب الأجودية المذكورة، وهي أبين من الرواية التي في بدء الوحي بلفظ " وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل". قوله: (في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ) أي رمضان، وهذا ظاهر في أنه كان يلقاه كذلك في كل رمضان منذ أنزل عليه القرآن ولا يختص ذلك برمضانات الهجرة، وإن كان صيام شهر رمضان إنما فرض بعد الهجرة لأنه كان يسمى رمضان قبل أن يفرض صيامه. قوله: (يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن) هذا عكس ما وقع في الترجمة لأن فيها أن جبريل كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم، وفي هذا أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل، وتقدم في بدء الوحي بلفظ " وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن " فيحمل على أن كلا منهما كان يعرض على الآخر، ويؤيده ما وقع في رواية أبي هريرة آخر أحاديث الباب كما سأوضحه. وفي الحديث إطلاق القرآن على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده، إلى رمضان الأخير فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور، وكان في سنة عشر إلى أن مات النبي صلى الله عليه وسلم في ربيع الأول سنة إحدى عشرة، ومما نزل في تلك المدة قوله تعالى واختلف في العرضة الأخيرة هل كانت بجميع الأحرف المأذون في قراءتها أو بحرف واحد منها؟ وعلى الثاني فهل هو الحرف الذي جمع عليه عثمان جميع الناس أو غيره؟ وقد روى أحمد وابن أبي داود والطبري من طريق عبيدة بن عمرو السلماني " أن الذي جمع عليه عثمان الناس يوافق العرضة الأخيرة " ومن طريق محمد بن سيرين قال " كان جبريل يعارض النبي صلى الله عليه وسلم بالقرآن - الحديث نحو حديث ابن عباس وزاد في آخره -: فيرون أن قراءتنا أحدث القراءات عهدا بالعرضة الأخيرة". وعند الحاكم نحوه من حديث سمرة وإسناده حسن، وقد صححه هو ولفظه " عرض القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم عرضات، ويقولون إن قراءتنا هذه هي العرضة الأخيرة " ومن طريق مجاهد " عن ابن عباس قال: أي القراءتين ترون كان آخر القراءة؟ قالوا: قراءة زيد ابن ثابت، فقال: لا، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض القرآن كل سنة على جبريل، فلما كان في السنة التي قبض فيها عرضه عليه مرتين وكانت قراءة ابن مسعود آخرهما " وهذا يغاير حديث سمرة ومن وافقه، وعند مسدد في مسنده من طريق إبراهيم النخعي " أن ابن عباس سمع رجلا يقول: الحرف الأول، فقال: ما الحرف الأول؟ قال إن عمر بعث ابن مسعود إلى الكوفة معلما فأخذوا بقراءته فغير عثمان القراءة، فهم يدعون قراءة ابن مسعود الحرف الأول، فقال ابن عباس: إنه لآخر حرف عرض به النبي صلى الله عليه وسلم على جبريل " وأخرج النسائي من طريق أبي ظبيان قال " قال لي ابن عباس: أي القراءتين تقرأ؟ قلت: القراءة الأولى قراءة ابن أم عبد - يعني عبد الله بن مسعود - قال: بل هي الأخيرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعرض على جبريل - الحديث وفي آخره - فحضر ذلك ابن مسعود فعلم ما نسخ من ذلك وما بدل " وإسناده صحيح، ويمكن الجمع بين القولين بأن تكون العرضتان الأخيرتان وقعتا بالحرفين المذكورين. فيصح إطلاق الآخرية على كل منهما. قوله: (أجود بالخير من الريح المرسلة) فيه جواز المبالغة في التشبيه، وجواز تشبيه المعنوي بالمحسوس ليقرب لفهم سامعه، وذلك أنه أثبت له أولا وصف الأجودية، ثم أراد أن يصفه بأزيد من ذلك فشبه جوده بالريح المرسلة، بل جعله أبلغ في ذلك منها، لأن الريح قد تسكن. وفيه الاحتراس لأن الريح منها العقيم الضارة ومنها المبشرة بالخير فوصفها بالمرسلة ليعين الثانية، وأشار إلى قوله تعالى وفي الحديث من الفوائد غير ما سبق تعظيم شهر رمضان لاختصاصه بابتداء نزول القرآن فيه، ثم معارضته ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثر، نزول جبريل فيه. وفي كثرة نزوله من توارد الخيرات والبركات ما لا يحصى، ويستفاد منه أن فضل الزمان إنما يحصل بزيادة العبادة. وفيه أن مداومة التلاوة توجب زيادة الخير. وفيه استحباب تكثير العبادة في آخر العمر، ومذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان هو لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ. وفيه أن ليل رمضان أفضل من نهاره، وأن المقصود من التلاوة الحضور والفهم لأن الليل مظنة ذلك لما في النهار من الشواغل والعوارض الدنيوية والدينية، ويحتمل أنه صلى الله عليه وسلم كان يقسم ما نزل من القرآن في كل سنة على ليالي رمضان أجزاء فيقرأ كل ليلة جزءا في جزء من الليلة، والسبب في ذلك ما كان يشتغل به في كل ليلة من سوى ذلك من تهجد بالصلاة ومن راحة بدن ومن تعاهد أهل، ولعله كان يعيد ذلك الجزء مرارا بحسب تعدد الحروف المأذون في قراءتها ولتستوعب بركة القرآن جميع الشهر، ولولا التصريح بأنه كان يعرضه مرة واحدة وفي السنة الأخيرة عرضه مرتين لجاز أنه كان يعرض جميع ما نزل عليه كل ليلة ثم يعيده في بقية الليالي. وقد أخرج أبو عبيد من طريق داود بن أبي هند قال: قلت للشعبي: قوله تعالى ولكن جبريل كان يعارض مع النبي صلى الله عليه وسلم في رمضان ما أنزل الله فيحكم الله ما يشاء ويثبت ما يشاء. ففي هذا إشارة إلى الحكمة في التقسيط الذي أشرت إليه لتفصيل ما ذكره من المحكم والمنسوخ. ويؤيده أيضا الرواية الماضية في بدء الخلق بلفظ " فيدارسه القرآن " فإن ظاهره أن كلا منهما كان يقرأ على الآخر، وهي موافقة لقوله " يعارضه " فيستدعي ذلك زمانا زائدا على ما لو قرأ الواحد، ولا يعارض ذلك قوله تعالى وقد تقدمت بقية فوائد حديث ابن عباس في بدء الوحي. الحديث: حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ يَزِيدَ حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ عَنْ أَبِي حَصِينٍ عَنْ أَبِي صَالِحٍ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ كَانَ يَعْرِضُ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْقُرْآنَ كُلَّ عَامٍ مَرَّةً فَعَرَضَ عَلَيْهِ مَرَّتَيْنِ فِي الْعَامِ الَّذِي قُبِضَ فِيهِ وَكَانَ يَعْتَكِفُ كُلَّ عَامٍ عَشْرًا فَاعْتَكَفَ عِشْرِينَ فِي الْعَام الَّذِي قُبِضَ فِيهِ الشرح: قوله: (حدثنا خالد بن يزيد) هو الكاهلي، وأبو بكر هو ابن عياش بالتحتانية والمعجمة. وأبو حصين بفتح أوله عثمان بن عاصم، وذكوان هو أبو صالح السمان. قوله: (كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم) كذا لهم بضم أوله على البناء للمجهول، وفي بعضها بفتح أوله بحذف الفاعل، فالمحذوف هو جبريل صرح به إسرائيل في روايته عن أبي حصين أخرجه الإسماعيلي ولفظه " كان جبريل يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن في كل رمضان " وإلى هذه الرواية أشار المصنف في الترجمة. قوله: (القرآن كل عام مرة) سقط لفظ " القرآن " لغير الكشميهني، زاد إسرائيل عند الإسماعيلي " فيصبح وهو أجود بالخير من الريح المرسلة " وهذه الزيادة غريبة في حديث أبي هريرة، وإنما هي محفوظة من حديث ابن عباس. قوله: (فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه) في رواية إسرائيل " عرضتين " وقد تقدم ذكر الحكمة في تكرار العرض في السنة الأخيرة، ويحتمل أيضا أن يكون السر في ذلك أن رمضان من السنة الأولى لم يقع فيه مدارسة لوقوع ابتداء النزول في رمضان، ثم فتر الوحي ثم تتابع فوقعت المدارسة في السنة الأخيرة مرتين ليستوي عدد السنين والعرض. قوله: (وكان يعتكف في كل عام عشرا فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه) ظاهره أنه اعتكف عشرين يوما من رمضان وهو مناسب لفعل جبريل حيث ضاعف عرض القرآن في تلك السنة، ويحتمل أن يكون السبب ما تقدم في الاعتكاف أنه صلى الله عليه وسلم كان يعتكف عشرا فسافر عاما فلم يعتكف فاعتكف من قابل عشرين يوما، وهذا إنما يتأتى في سفر وقع في شهر رمضان " وكان رمضان من سنة تسع دخل وهو صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، وهذا بخلاف القصة المتقدمة في كتاب الصيام أنه شرع في الاعتكاف في أول العشر الأخير فلما رأى ما صنع أزواجه من ضرب الأخبية تركه ثم اعتكف عشرا في شوال، ويحتمل اتحاد القصة، ويحتمل أيضا أن تكون القصة التي في حديث الباب هي التي أوردها مسلم وأصلها عند البخاري من حديث أبي سعيد قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجاوز العشر التي في وسط الشهر، فإذا استقبل إحدى وعشرين رجع، فأقام في شهر جاور فيه تلك الليلة التي كان يرجع فيها ثم قال: إني كنت أجاور هذه العشر الوسط ثم بدا لي أن أجاور العشر الأواخر، فجاور العشر الأخير " الحديث، ليكون المراد بالعشرين العشر الأوسط والعشر الأخير. *3* الشرح: قوله: (باب القراء من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم) أي الذين اشتهروا بحفظ القرآن والتصدي لتعليمه، وهذا اللفظ كان في عرف السلف أيضا لمن تفقه في القرآن. وذكر فيه ستة أحاديث الأول عن عمرو هو ابن مرة، وقد نسبه المصنف في المناقب من هذا الوجه، وذهل الكرماني. فقال: هو عمرو بن عبد الله أبو إسحاق السبيعي، وليس كما قال. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا شُعْبَةُ عَنْ عَمْرٍو عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ مَسْرُوقٍ ذَكَرَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو عَبْدَ اللَّهِ بْنَ مَسْعُودٍ فَقَالَ لَا أَزَالُ أُحِبُّهُ سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ خُذُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ وَسَالِمٍ وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ الشرح: قوله: (عن مسروق) جاء عن إبراهيم وهو النخعي فيه شيخ آخر أخرجه الحاكم من طريق أبي سعيد المؤدب عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله، وهو مقلوب فإن المحفوظ في هذا عن الأعمش عن أبي وائل عن مسروق كما تقدم في المناقب، ويحتمل أن يكون إبراهيم حمله عن شيخين والأعمش حمله عن شيخين. قوله: (خذوا القرآن من أربعة) أي تعلموه منهما، والأربعة المذكورون اثنان من المهاجرين وهما المبدأ بهما واثنان من الأنصار، وسالم هو ابن معقل مولى أبي حذيفة، ومعاذ هو ابن جبل. وقد تقدم هذا الحديث في مناقب سالم مولى أبي حذيفة من هذا الوجه وفي أوله " ذكر عبد الله بن مسعود عند عبد الله بن عمرو فقال: ذاك رجل لا أزال أحبه بعدما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: خذوا القرآن من أربعة فبدأ به " فذكر حديث الباب. ويستفاد منه محبة من يكون ماهرا في القرآن، وأن البداءة بالرجل في الذكر على غيره في أمر اشترك فيه مع غيره يدل على تقدمه فيه، وتقدم بقية شرحه هناك. وقال الكرماني: يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم أراد الإعلام بما يكون بعده، أي أن هؤلاء الأربعة يبقون حتى ينفردوا بذلك، وتعقب بأنهم لم ينفردوا بل الذين مهروا في تجويد القرآن بعد العصر النبوي أضعاف المذكورين، وقد قتل سالم مولى أبي حذيفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة اليمامة، ومات معاذ في خلافة عمر، ومات أبي وابن مسعود في خلافة عثمان، وقد تأخر زيد بن ثابت وانتهت إليه الرياسة في القراءة وعاش بعدهم زمانا طويلا، فالظاهر أنه أمر بالأخذ عنهم في الوقت الذي صدر فيه ذلك القول، ولا يلزم من ذلك أن لا يكون أحد في ذلك الوقت شاركهم في حفظ القرآن، بل كان الذين يحفظون مثل الذين حفظوه وأزيد منهم جماعة من الصحابة، وقد تقدم في غزوة بئر معونة أن الذين قتلوا بها من الصحابة كان يقال لهم القراء وكانوا سبعين رجلا. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ قَالَ خَطَبَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ فَقَالَ وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللَّهِ وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ قَالَ شَقِيقٌ فَجَلَسْتُ فِي الْحِلَقِ أَسْمَعُ مَا يَقُولُونَ فَمَا سَمِعْتُ رَادًّا يَقُولُ غَيْرَ ذَلِكَ الشرح: قوله: (حدثنا عمر بن حفص حدثنا أبي) كذا للأكثر، وحكى الجياني أنه وقع في رواية الأصيلي عن الجرجاني " حدثنا حفص بن عمر حدثنا أبي " وهو خطأ مقلوب، وليس لحفص بن عمر أب يروي عنه في الصحيح، وإنما هو عمر بن حفص بن غياث بالغين المعجمة والتحتانية والمثلثة، وكان أبوه قاضي الكوفة، وقد أخرج أبو نعيم الحديث المذكور في " المستخرج " من طريق سهل بن بحر عن عمر بن حفص بن غياث ونسبه ثم قال: أخرجه البخاري عن عمر بن حفص. قوله: (حدثنا شقيق بن سلمة) في رواية مسلم والنسائي جميعا عن إسحاق عن عبدة عن الأعمش عن أبي وائل وهو شقيق المذكور، وجاء عن الأعمش فيه شيخ آخر أخرجه النسائي عن الحسن بن إسماعيل عن عبدة بن سليمان عنه عن أبي إسحاق عن هبيرة بن يريم عن ابن مسعود، فإن كان محفوظا احتمل أن يكون للأعمش فيه طريقان، وإلا فإسحاق وهو ابن راهويه أتقن من الحسن بن إسماعيل، مع أن المحفوظ عن أبي إسحاق فيه ما أخرجه أحمد وابن أبي داود من طريق الثوري وإسرائيل وغيرهما عن أبي إسحاق عن خمير بالخاء المعجمة مصغر عن ابن مسعود، فحصل الشذوذ في رواية الحسن بن إسماعيل في موضعين. قوله: (خطبنا عبد الله بن مسعود فقال: والله لقد أخذت من في رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعا وسبعين سورة) زاد عاصم عن بدر عن عبد الله " وأخذت بقية القرآن عن أصحابه " وعند إسحاق بن راهويه في روايته المذكورة في أوله وفي رواية النسائي وأبي عوانة وابن أبي داود من طريق ابن شهاب عن الأعمش عن أبي وائل قال " خطبنا عبد الله بن مسعود على المنبر فقال قوله: (والله لقد علم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أني من أعلمهم بكتاب الله) وقع في رواية عبدة وأبي شهاب جميعا عن الأعمش " أني أعلمهم بكتاب الله " بحذف " من " وزاد " ولو أعلم أن أحدا أعلم مني لرحلت إليه " وهذا لا ينفي إثبات " من " فإنه نفى الأغلبية ولم ينف المساواة، وسيأتي مزيد لذلك في الحديث الرابع. قوله: (وما أنا بخيرهم) يستفاد منه أن الزيادة في صفة من صفات الفضل لا تقتضي الأفضلية المطلقة، فالأعلمية بكتاب الله لا تستلزم الأعلمية المطلقة، بل يحتمل أن يكون غيره أعلم منه بعلوم أخرى فلهذا قال " وما أنا بخيرهم " وسيأتي في هذا بحث في " باب خيركم من تعلم القرآن وعلمه " إن شاء الله تعالى. قوله: (قال شقيق) أي بالإسناد المذكور: (فجلست في الحلق) بفتح المهملة واللام (فما سمعت رادا يقول غير ذلك) يعني لم يسمع من يخالف ابن مسعود يقول غير ذلك، أو المراد من يرد قوله ذلك. ووقع في رواية مسلم " قال شقيق فجلست في حلق أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم فما سمعت أحدا يرد ذلك ولا يعيبه " وفي رواية أبي شهاب " فلما نزل عن المنبر جلست في الحلق فما أحد ينكر ما قال " وهذا يخصص عموم قوله " أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم " بمن كان منهم بالكوفة ولا يعارض ذلك ما أخرجه ابن أبي داود من طريق الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن عبد الله بن مسعود فذكر نحو حديث الباب وفيه " قال الزهري: فبلغني أن ذلك كرهه من قول ابن مسعود رجال من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم " لأنه محمول على أن الذين كرهوا ذلك من غير الصحابة الذين شاهدهم شقيق بالكوفة، ويحتمل اختلاف الجهة. فالذي نفى شقيق أن أحدا رده أو عابه وصف ابن مسعود بأنه أعلمهم بالقرآن، والذي أثبته الزهري ما يتعلق بأمره بغل المصاحف، وكأن مراد ابن مسعود بغل المصاحف كتمها وإخفاؤها لئلا تخرج فتعدم وكأن ابن مسعود رأى خلاف ما رأى عثمان ومن وافقه في الاقتصار على قراءة واحدة وإلغاء ما عدا ذلك، أو كان لا ينكر الاقتصار لما في عدمه من الاختلاف، بل كان يزيد أن تكون قراءته هي التي يعول عليها دون غيرها لما له من المزية في ذلك مما ليس لغيره كما يؤخذ ذلك من ظاهر كلامه، فلما فاته ذلك ورأى أن الاقتصار على قراءة زيد ترجيح بغير مرجح عنده اختار استمرار القراءة على ما كانت عليه، على أن ابن أبي داود ترجم " باب رضي ابن مسعود بعد ذلك بما صنع عثمان " لكن لم يورد ما يصرح بمطابقة ما ترجم به. الحديث: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ كَثِيرٍ أَخْبَرَنَا سُفْيَانُ عَنْ الْأَعْمَشِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ عَنْ عَلْقَمَةَ قَالَ كُنَّا بِحِمْصَ فَقَرَأَ ابْنُ مَسْعُودٍ سُورَةَ يُوسُفَ فَقَالَ رَجُلٌ مَا هَكَذَا أُنْزِلَتْ قَالَ قَرَأْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ أَحْسَنْتَ وَوَجَدَ مِنْهُ رِيحَ الْخَمْرِ فَقَالَ أَتَجْمَعُ أَنْ تُكَذِّبَ بِكِتَابِ اللَّهِ وَتَشْرَبَ الْخَمْرَ فَضَرَبَهُ الْحَدَّ الشرح: قوله: (كنا بحمص فقرأ ابن مسعود سورة يوسف) هذا ظاهره أن علقمة حضر القصة، وكذا أخرجه الإسماعيلي عن أبي خليفة عن محمد بن كثير شيخ البخاري فيه، وأخرجه أبو نعيم من طريق يوسف القاضي عن محمد بن كثير فقال فيه " عن علقمة قال: كان عبد الله بحمص " وقد أخرجه مسلم من طريق جرير عن الأعمش ولفظه " عن عبد الله بن مسعود قال: كنت بحمص، فقرأت " فذكر الحديث، وهذا يقتضي أن علقمة لم يحضر القصة وإنما نقلها عن ابن مسعود، وكذا أخرجه أبو عوانة من طرق عن الأعمش ولفظه " كنت جالسا بحمص " وعند أحمد عن أبي معاوية عن الأعمش قال " عن عبد الله أنه قرأ سورة يوسف " ورواية أبي معاوية عند مسلم لكن أحال بها. قوله: (فقال رجل ما هكذا أنزلت) لم أقف على اسمه، وقد قيل إنه نهيك بن سنان الذي تقدمت له مع ابن مسعود في القرآن قصة غير هذه، لكن لم أر ذلك صريحا. وفي رواية مسلم " فقال لي بعض القوم: اقرأ علينا، فقرأت عليهم سورة يوسف، فقال رجل من القوم: ما هكذا أنزلت " فإن كان السائل هو القائل وإلا ففيه مبهم آخر. قوله: (فقال قرأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم) في رواية مسلم " فقلت ويحك، والله لقد أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم". قوله: (ووجد منه ريح الخمر) هي جملة حالية، ووقع في رواية مسلم " فبينما أنا أكلمه إذ وجدت منه ريح الخمر". قوله: (فضربه الحد) في رواية مسلم " فقلت لا تبرح حتى أجلدك، قال فجلدته الحد " قال النووي: هذا محمول على أن ابن مسعود كانت له ولاية إقامة الحدود نيابة عن الإمام، إما عموما وإما خصوصا، وعلى أن الرجل اعترف بشربها بلا عذر، وإلا فلا يجب الحد بمجرد ريحها. وعلى أن التكذيب كان بإنكار بعضه جاهلا، إذ لو كذب به حقيقة لكفر، فقد أجمعوا على أن من جحد حرفا مجمعا عليه من القرآن كفر ا ه، والاحتمال الأول جيد، ويحتمل أيضا أن يكون قوله " فضربه الحد " أي رفعه إلى الأمير فضربه فأسند الضرب إلى نفسه مجازا لكونه كان سببا فيه. وقال القرطبي: إنما أقام عليه الحد لأنه جعل له ذلك من له الولاية، أو لأنه رأى أنه قام عن الإمام بواجب، أو لأنه كان ذلك في زمان ولايته الكوفة فإنه وليها في زمن عمر وصدرا من خلافة عثمان انتهى، والاحتمال الثاني موجه، وفي الأخير غفلة عما في أول الخبر أن ذلك كان بحمص، ولم يلها ابن مسعود وإنما دخلها غازيا وكان ذلك في خلافة عمر. وأما الجواب الثاني عن الرائحة فيرده النقل عن ابن مسعود أنه كان يرى وجوب الحد بمجرد وجود الرائحة، وقد وقع مثل ذلك لعثمان في قصة الوليد بن عقبة، ووقع عند الإسماعيلي إثر هذا الحديث النقل عن علي أنه أنكر على ابن مسعود جلده الرجل بالرائحة وحدها إذ لم يقر ولم يشهد عليه. وقال القرطبي: في الحديث حجة على من يمنع وجوب الحد بالرائحة كالحنفية وقد قال به مالك وأصحابه وجماعة من أهل الحجاز. قلت: والمسألة خلافية شهيرة، وللمانع أن يقول: إذا احتمل أن يكون أقر سقط الاستدلال بذلك، ولما حكى الموفق في " المغني " الخلاف في وجوب الحد بمجرد الرائحة اختار أن لا يحد بالرائحة وحدها بل لا بد معها من قرينة كأن يوجد سكران أو يتقيأها، ونحوه أن يوجد جماعة شهروا بالفسق ويوجد معهم خمر ويوجد من أحدهم رائحة الخمر، وحكى ابن المنذر عن بعض السلف أن الذي يجب عليه الحد بمجرد الرائحة من يكون مشهورا بإدمان شرب الخمر وقيل بنحو هذا التفصيل فيمن شك وهو في الصلاة هل خرج منه ريح أو لا فإن قارن ذلك وجود رائحة دل ذلك على وجود الحدث فيتوضأ وإن كان في الصلاة فلينصرف، ويحمل ما ورد من ترك الوضوء مع الشك على ما إذا تجرد الظن عن القرينة، وسيكون لنا عودة إلى هذه المسألة في كتاب الحدود إن شاء الله تعالى. وأما الجواب عن الثالث فجيد أيضا، لكن يحتمل أن يكون ابن مسعود كان لا يرى بمؤاخذة السكران بما يصدر منه من الكلام في حال سكره. وقال القرطبي: يحتمل أن يكون الرجل كذب ابن مسعود ولم يكذب بالقرآن، وهو الذي يظهر من قوله " ما هكذا أنزلت " فإن ظاهره أنه أثبت إنزالها ونفى الكيفية التي أوردها ابن مسعود. وقال الرجل ذلك إما جهلا منه أو قلة حفظ أو عدم تثبت بعثه عليه السكر، وسيأتي مزيد بحث في ذلك في كتاب الطلاق إن شاء الله تعالى. الحديث: حَدَّثَنَا عُمَرُ بْنُ حَفْصٍ حَدَّثَنَا أَبِي حَدَّثَنَا الْأَعْمَشُ حَدَّثَنَا مُسْلِمٌ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ قَالَ عَبْدُ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللَّهِ تُبَلِّغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ الشرح: قوله: (حدثنا مسلم) هو أبو الضحى الكوفي، وقع كذلك في رواية أبي حمزة عن الأعمش عند الإسماعيلي، وفي طبقة مسلم هذا رجلان من أهل الكوفة يقال لكل منهما مسلم أحدهما يقال له الأعور والآخر يقال له البطين، فالأول هو مسلم بن كيسان والثاني مسلم بن عمران، ولم أر لواحد منهما رواية عن مسروق فإذا أطلق مسلم عن مسروق عرف أنه هو أبو الضحى، ولو اشتركوا في أن الأعمش روى عن الثلاثة. قوله: (قال عبد الله) في رواية قطبة عن الأعمش عند مسلم " عن عبد الله بن مسعود". قوله: (والله) في رواية جرير عن الأعمش عند ابن أبي داود " قال عبد الله لما صنع بالمصاحف ما صنع: والله إلخ". قوله: (فيمن أنزلت) في رواية الكشميهني " فيما أنزلت " ومثله في رواية قطبة وجرير: قوله: (ولو أعلم أحدا أعلم مني بكتاب الله تبلغه الإبل) في رواية الكشميهني " تبلغنيه " وهي رواية جرير. قوله: (لركبت إليه) تقدم في الحديث الثاني بلفظ " لرحلت إليه " ولأبي عبيدة من طريق ابن سيرين " نبئت أن ابن مسعود قال: لو أعلم أحدا تبلغنيه الإبل أحدث عهدا بالعرضة الأخيرة مني لأتيته - أو قال - لتكلفت أن أتيه " وكأنه احترز بقوله تبلغنيه الإبل عمن لا يصل إليه على الرواحل إما لكونه كان لا يركب البحر فقيد بالبر أو لأنه كان جازما بأنه لا أحد يفوقه في ذلك من البشر فاحترز عن سكان السماء. وفي الحديث جواز ذكر الإنسان نفسه بما فيه من الفضيلة بقدر الحاجة، ويحمل ما ورد من ذم ذلك على من وقع ذلك منه فخرا أو إعجابا. الحديث: حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ عُمَرَ حَدَّثَنَا هَمَّامٌ حَدَّثَنَا قَتَادَةُ قَالَ سَأَلْتُ أَنَسَ بْنَ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ مَنْ جَمَعَ الْقُرْآنَ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَرْبَعَةٌ كُلُّهُمْ مِنْ الْأَنْصَارِ أُبَيُّ بْنُ كَعْبٍ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ تَابَعَهُ الْفَضْلُ عَنْ حُسَيْنِ بْنِ وَاقِدٍ عَنْ ثُمَامَةَ عَنْ أَنَسٍ الشرح: حديث أنس، ذكره من وجهين قوله: (سألت أنس بن مالك: من جمع القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال: أربعة كلهم من الأنصار) في رواية الطبري من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة في أول الحديث " افتخر الحيان الأوس والخزرج، فقال الأوس: منا أربعة: من اهتز له العرش سعد بن معاذ، ومن عدلت شهادته شهادة رجلين خزيمة ابن ثابت، ومن غسلته الملائكة حنظلة بن أبي عامر، ومن حمته الدبر عاصم بن ثابت. فقال الخزرج: منا أربعة جمعوا القرآن لم يجمعه غيرهم. فذكرهم. قوله: (وأبو زيد) تقدم في مناقب زيد بن ثابت من طريق شعبة عن قتادة " قلت لأنس: من أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي " وتقدم بيان الاختلاف في اسم أبي زيد هناك وجوزت هناك أن لا يكون لقول أنس " أربعة " مفهوم، لكن رواية سعيد التي ذكرتها الآن من عند الطبري صريحة في الحصر، وسعيد ثبت في قتادة. ويحتمل مع ذلك أن مراد أنس " لم يجمعه غيرهم " أي من الأوس بقرينة المفاخرة المذكورة، ولم يرد نفي ذلك عن المهاجرين، ثم في رواية سعيد أن ذلك من قول الخزرج، ولم يفصح باسم قائل ذلك، لكن لما أورده أنس ولم يتعقبه كان كأنه قائل به ولا سيما وهو من الخزرج. وقد أجاب القاضي أبو بكر الباقلاني وغيره عن حديث أنس هذا بأجوبة: أحدها أنه لا مفهوم له، فلا يلزم أن لا يكون غيرهم جمعه. ثانيها المراد لم يجمعه على جميع الوجوه والقراءات التي نزل بها إلا أولئك. ثالثها لم يجمع ما نسخ منه بعد تلاوته وما لم ينسخ إلا أولئك، وهو قريب من الثاني، رابعها أن المراد بجمعه تلقيه من في رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بواسطة، بخلاف غيرهم فيحتمل أن يكون تلقى بعضه بالواسطة. خامسها أنهم تصدوا لإلقائه وتعليمه فاشتهروا به، وخفي حال غيرهم عمن عرف حالهم فحصر ذلك فيهم بحسب علمه، وليس الأمر في نفس الأمر كذلك، أو يكون السبب في خفائهم أنهم خافوا غائلة الرياء والعجب، وأمن ذلك من أظهره. سادسها المراد بالجمع الكتابة، فلا ينفي أن يكون غيرهم جمعه حفظا عن ظهر قلب، وأما هؤلاء فجمعوه كتابة وحفظوه عن ظهر قلب. سابعها المراد أن أحدا لم يفصح بأنه جمعه بمعنى أكمل حفظه في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أولئك، بخلاف غيرهم فلم يفصح بذلك لأن أحدا منهم لم يكمله إلا عند وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت آخر آية منه، فلعل هذه الآية الأخيرة وما أشبهها ما حضرها إلا أولئك الأربعة ممن جمع جميع القرآن قبلها، وإن كان قد حضرها من لم يجمع غيرها الجمع البين. ثامنها أن المراد بجمعه السمع والطاعة له والعمل بموجبه. وقد أخرج أحمد في الزهد من طريق أبي الزاهرية " أن رجلا أتى أبا الدرداء فقال: إن ابني جمع القرآن، فقال: اللهم غفرا، إنما جمع القرآن من سمع له وأطاع " وفي غالب هذه الاحتمالات تكلف ولا سيما الأخير وقد أومأت قبل هذا إلى احتمال آخر، وهو أن المراد إثبات ذلك للخزرج دون الأوس فقط، فلا ينفي ذلك عن غير القبيلتين من المهاجرين ومن جاء بعدهم، ويحتمل أن يقال: إنما اقتصر عليهم أنس لتعلق غرضه بهم، ولا يخفى بعده. والذي يظهر من كثير من الأحاديث أن أبا بكر كان يحفظ القرآن في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد تقدم في المبعث أنه بنى مسجدا بفناء داره فكان يقرأ فيه القرآن، وهو محمول على ما كان نزل منه إذ ذاك، وهذا مما لا يرتاب فيه مع شدة حرص أبي بكر على تلقي القرآن من النبي صلى الله عليه وسلم وفراغ باله له وهما بمكة وكثرة ملازمة منهما للآخر حتى قالت عائشة كما تقدم في الهجرة أنه صلى الله عليه وسلم كان يأتيهم بكرة وعشية. وقد صحح مسلم حديث " يؤم القوم أقرؤهم لكتاب الله " وتقدمت الإشارة إليه، وتقدم أنه صلى الله عليه وسلم أمر أبا بكر أن يؤم في مكانه لما مرض فيدل على أنه كان أقرأهم، وتقدم عن علي أنه جمع القرآن على ترتيب النزول عقب موت النبي صلى الله عليه وسلم. وأخرج النسائي بإسناد صحيح عن عبد الله بن عمر قال " جمعت القرآن فقرأت به كل ليلة، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال: اقرأه في شهر " الحديث، وأصله في الصحيح وتقدم في الحديث الذي مضى ذكر ابن مسعود وسالم مولى أبي حذيفة وكل هؤلاء من المهاجرين، وقد ذكر أبو عبيد القراء من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فعد من المهاجرين الخلفاء الأربعة وطلحة وسعدا وابن مسعود وحذيفة وسالما وأبا هريرة وعبد الله بن السائب والعبادلة، ومن النساء عائشة وحفصة وأم سلمة، ولكن بعض هؤلاء إنما أكمله بعد النبي صلى الله عليه وسلم فلا يرد على الحصر المذكور في حديث أنس، وعد ابن أبي داود في " كتاب الشريعة " من المهاجرين أيضا تميم بن أوس الداري وعقبة بن عامر " ومن الأنصار عبادة بن الصامت ومعاذا الذي يكنى أبا حليمة ومجمع بن حارثة وفضالة بن عبيد ومسلمة بن مخلد وغيرهم، وصرح بأن بعضهم إنما جمعه بعد النبي صلى الله عليه وسلم، وممن جمعه أيضا أبو موسى الأشعري ذكره أبو عمرو الداني، وعد بعض المتأخرين من القراء عمرو بن العاص وسعد بن عباد وأم ورقة. قوله: (تابعه الفضل بن موسى عن حسين بن واقد عن ثمامة عن أنس) هذا التعليق وصله إسحاق بن راهويه في مسنده عن الفضل بن موسى به، ثم أخرجه المصنف من طريق عبد الله بن المثنى " حدثني ثابت البناني وثمامة عن أنس قال مات النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجمع القرآن غير أربعة " فذكر الحديث، فخالف رواية قتادة من وجهين: أحدهما التصريح بصيغة الحصر في الأربعة، ثانيهما ذكر أبي الدرداء بدل أبي بن كعب. فأما الأول فقد تقدم الجواب عنه من عدة أوجه، وقد استنكره جماعة من الأئمة. قال المازري: لا يلزم من قول أنس لم يجمعه غيرهم أن يكون الواقع في نفس الأمر كذلك لأن التقدير أن لا يعلم أن سواهم جمعه، وإلا فكيف الإحاطة بذلك مع كثرة الصحابة وتفرقهم في البلاد، وهذا لا يتم إلا إن كان لقي كل واحد منهم على انفراده وأخبره عن نفسه أنه لم يكمل له جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا في غاية البعد في العادة، وإذا كان المرجع إلى طخا ما في علمه لم يلزم أن يكون الواقع كذلك. قال وقد تمسك بقول أنس هذا جماعة من الملاحدة، ولا متمسك لهم فيه فإنا لا نسلم حمله على ظاهره. سلمناه، ولكن من أين لهم أن الواقع في نفس الأمر كذلك؟ سلمناه، لكن لا يلزم من كون كل واحد من الجم الغفير لم يحفظه كله أن لا يكون حفظ مجموعه الجم الغفير، وليس من شرط التواتر أن يحفظ كل فرد جميعه، بل إذا حفظ الكل الكل ولو على التوزيع كفى، واستدل القرطبي على ذلك ببعض ما تقدم من أنه قتل يوم اليمامة سبعون من القراء، وقتل في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ببئر معونة مثل هذا العدد، قال: وإنما خص أنس الأربعة بالذكر لشدة تعلقه بهم دون غيرهم، أو لكونهم كانوا في ذهنه دون غيرهم. وأما الوجه الثاني من المخالفة فقال الإسماعيلي: هذان الحديثان مختلفان، ولا يجوزان في الصحيح مع تباينهما، بلى الصحيح أحدهما. وجزم البيهقي بأن ذكر أبي الدرداء وهم والصواب أبي بن كعب. وقال الداودي: لا أرى ذكر أبي الدرداء محفوظا. قلت: وقد أشار البخاري إلى عدم الترجيح إسرجيح باستواء الطرفين، فطريق قتادة على شرطه وقد وافقه عليها ثمامة في إحدى الروايتين عنه، وطريق ثابت أيضا على شرطه وقد وافقه عليها أيضا ثمامة في الرواية الأخرى، لكن مخرج الرواية عن ثابت وثمامة بموافقته، وقد وقع عن عبد الله بن المثنى وفيه مقال وإن كان عند البخاري مقبولا لكن لا تعادل روايته رواية قتادة، ويرجح رواية قتادة حديث عمر في ذكر أبي بن كعب وهو خاتمة أحاديث الباب، ولعل البخاري أشار بإخراجه إلى ذلك لتصريح عمر بترجيحه لا القراءة على غيره، ويحتمل أن يكون أنس حدث بهذا الحديث في وقتين فذكره مرة أبي بن كعب ومرة بدله أبا الدرداء، وقد روى ابن أبي داود من طريق محمد بن كعب القرظي قال " جمع القرآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خمسة من الأنصار: معاذ بن جبل وعبادة بن الصامت وأبي بن كعب وأبو الدرداء وأبو أيوب الأنصاري " وإسناده حسن مع إرساله، وهو شاهد جيد لحديث عبد الله بن المثنى في ذكر أبي الدرداء وإن خالفه في العدد والمعدود، ومن طريق الشعبي قال " جمع القرآن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ستة منهم أبو الدرداء ومعاذ وأبو زيد وزيد بن ثابت، وهؤلاء الأربعة هم الذين ذكروا في رواية عبد الله بن المثنى، وإسناده صحيح مع إرساله. فلله در البخاري ما أكثر اطلاعه. وقد تبين بهذه الرواية المرسلة قوة رواية عبد الله بن المثنى وأن لروايته أصلا والله أعلم. وقال الكرماني: لعل السامع كان يعتقد أن هؤلاء الأربعة لم يجمعوا وكان أبو الدرداء ممن جمع فقال أنس ذلك ردا عليه، وأتى بصيغة الحصر ادعاء ومبالغة، ولا يلزم منه النفي عن غيرهم بطريق الحقيقة والله أعلم. الحديث: حَدَّثَنَا مُعَلَّى بْنُ أَسَدٍ حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْمُثَنَّى قَالَ حَدَّثَنِي ثَابِتٌ الْبُنَانِيُّ وَثُمَامَةُ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ قَالَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَمْ يَجْمَعْ الْقُرْآنَ غَيْرُ أَرْبَعَةٍ أَبُو الدَّرْدَاءِ وَمُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ وَزَيْدُ بْنُ ثَابِتٍ وَأَبُو زَيْدٍ قَالَ وَنَحْنُ وَرِثْنَاهُ الشرح: قوله: (وأبو زيد قال ونحن ورثناه) القائل ذلك هو أنس، وقد تقدم في مناقب زيد بن ثابت قال قتادة: قلت ومن أبو زيد؟ قال: أحد عمومتي، وتقدم في غزوة بدر من وجه آخر عن قتادة عن أنس قال " مات أبو زيد وكان بدريا ولم يترك عقبا " وقال أنس: نحن، ورثناه. وقوله "أحد عمومتي " يرد قول من سمي أبا زيد المذكور سعد بن عبيد بن النعمان أحد بني عمرو بن عوف لأن أنسا خزرجي وسعد بن عبيد أوسي، وإذا كان كذلك احتمل أن يكون سعد بن عبيد ممن جمع ولم يطلع أنس على ذلك، وقد قال أبو أحمد العسكري: لم يجمعه من الأوس غيره. وقال محمد بن حبيب في " المجبر ": سعد بن عبيد ونسبه كان أحد من جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ووقع في رواية الشعبي التي أشرت إليها المغايرة بين سعد بن عبيد وبين أبي زيد فإنه ذكرهما جميعا فدل، على أنه غير المراد في حديث أنس. وقد ذكر ابن أبي داود فيمن جمع القرآن قيس بن أبي صعصعة وهو خزرجي وتقدم أنه يكنى أبا زيد، وسعد بن المنذر بن أوس بن زهير وهو خزرجي أيضا لكن لم أر التصريح بأنه يكنى أبا زيد، ثم وجدت عند أبي داود ما يرفع الإشكال من أصله، فإنه روى بإسناد على شرط البخاري إلى ثمامة عن أنس أن أبا زيد الذي جمع القرآن اسمه قيس بن السكن، قال " وكان رجلا منا من بني عدي بن النجار أحد عمومتي ومات، ولم يدع عقبا، ونحن ورثناه " قال ابن أبي داود: حدثنا أنس بن خالد الأنصاري قال هو قيس بن السكن من زعوراء من بني عدي بن النجار، قال ابن أبي داود: مات قريبا من وفاة النبي صلى الله عليه وسلم فذهب علمه ولم يؤخذ عنه وكان عقبيا بدريا. الحديث: حَدَّثَنَا صَدَقَةُ بْنُ الْفَضْلِ أَخْبَرَنَا يَحْيَى عَنْ سُفْيَانَ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ قَالَ عُمَرُ أُبَيٌّ أَقْرَؤُنَا وَإِنَّا لَنَدَعُ مِنْ لَحَنِ أُبَيٍّ وَأُبَيٌّ يَقُولُ أَخَذْتُهُ مِنْ فِي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا أَتْرُكُهُ لِشَيْءٍ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا الشرح: قوله: (يحيى) هو القطان، وسفيان هو الثوري. قوله: (عن حبيب بن أبي ثابت) عند الإسماعيلي " حدثنا حبيب". قوله: (أبي أقرؤنا) كذا للأكثر وبه جزم المزي في " الأطراف " فقال: ليس في رواية صدقة ذكر علي. قلت: وقد ثبت في رواية النسفي عن البخاري، فأول الحديث عنده " علي أقضانا، وأبي أقرؤنا " وقد ألحق الدمياطي في نسخته في حديث الباب ذكر علي وليس بجيد، لأنه ساقط من رواية الفربري التي عليها مدار روايته، وقد تقدم في تفسير البقرة عن عمرو بن علي عن يحيى القطان بسنده هذا وفيه ذكر علي عند الجميع. قوله: (من لحن أبي) أي من قراءته، ولحن القول فحواه ومعناه المراد به هنا القول. وكان أبي بن كعب لا يرجع عما حفظه من القرآن الذي تلقاه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أخبره غيره أن تلاوته نسخت، لأنه إذا سمع ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم حصل عنده القطع به فلا يزول عنه بإخبار غيره أن تلاوته نسخت، وقد استدل عليه عمر بالآية الدالة على النسخ وهو من أوضح الاستدلال في ذلك، وقد تقدم بقية شرحه في التفسير.
|